رابطة العصبة الحداثية الأدبية

جانفي 7, 2009

فصل من رواية “الباخرة كليوباترا” لمحمد معروف.. تصدر قريبا عن ميريت

الفصل الثامن
( يرويه الأمير أنور عرفان عثمان اغلو)

كنت في صغري اتعلم علي يد شيخ يحفظني القرآن و يعلمني بعض امور الدين. و في يوم روي علي حديث: ” ارحموا من الناس ثلاثة‏:‏ عزيز قوم ذل، وغنى قوم افتقر، وعالما بين جهال‏” و دمعت عينيه للحظة. كنت ساعتها في الرابعة عشر من عمري و كنت علي استيعاب لما يجري من امور حولي. كان الشيخ يرثي لحالي و لحال الأسرة التي ينقض حكمها الطويل و العريق للبلاد. و سرعان ما انتهت السلطنة و بقيت الخلافة.. الا ان الأمور كانت تسير الي الأسوأ.. و بالفعل و في 3 مارس 1924 تم طرد الخليفة عبدالمجيد الثاني و معه كل اعضاء الأسرة المالكة من امبراطورية اجدادهم.. لقد انتهي عهد العثمانين.. انتهي حكم العائلة التي انتمي اليها..
و انفرط عقد العائلة التي كانت تستعمر كل بقعة في اسطنبول.. و خلف خليفة المسلمين (سابقا) اخذنا والدي الي فرنسا، حيث سكنا في بيت صغير في وسط باريس. كنا وقتها اسرة سعيدة، اخذ الله منها السلطة و الغني، لكنها ميسورة الحال و كل افرادها في افضل حال. كانت امي لاتزال علي قيد الحياة، و اخي الأكبر مازالت الدماء في عروقه حارة. أفتتح ابي تجارة له في وسط باريس.. كان كل شئ علي مايرام حتي سقطت امي فجاءة. لقد انقض عليها السرطان حتي تركها جثة هامدة.. لم تمر السنة حتي انقلب حال الأسرة تماما. لقد تدهور حال ابي و تدهورت تجارته بشكل كبير. و كان الأنهيار الأقتصادي لعام 1929 هو الضربة القاضية.. صحيح ان فرنسا كانت من اقل الدول تضررا، الا ان الضربة كانت قاصمة لكثير من التجار و منهم ابي. و مرغمين تحت وطأة الدين انتقلنا من بيتنا الجميل الي شقة ضيقة في احدي الضواحي الفقيرة بباريس. كانت اسرتنا في اسوأ حالاتها.
و في يوم من الأيام، كان ابي نشيطا علي غير العادة.. عاد من الشارع و معه طعام الأفطار.. أعد لنا الأفطار، فتح البلكون و أدخل طاولة صغيرة الي داخلها..
– هيا.. هلم فليأت كل منكم بكرسيه.. لنتناول الأفطار هنا في الشمس..
كان الدهشة بادية علي وجوهنا، الا ان اخي بايزيد هو من نطق..
– خيرا يا ابي.. تبدو سعيدا..
هز ابي رأسه مغتبطا..
– اظنني كذلك..
و اخذنا كراسينا و اجتمعنا ثلاثتنا حوله، انا و بايزيد اخي الأكبر و عاتكة اختي الصغري. افطرنا في هدوء. أخيرا تكلم..
– تعرفون ان ابي هو السطان مراد الخامس.. لكن هل تعرفون من كان الجد المشترك بيني و بين والدتكم؟
– السلطان محمود الثاني..
قلناها في نفس واحد.. انه تاريخ العائلة..
– انها حفيدته من ابنته الأميرة نهال..
هكذا اكمل بايزيد في بساطة.. ربت ابي علي ركبته في سرور.. ثم اطلق مفاجأته..
– و هل تعرفون انه قد اهدي ابنته الأميرة نهال مجموعة مجوهرات ثمينة من اربع ماسات نادرة.. اصغر واحدة منها تبلغ 45 قيراطا في حين تتجاوز الكبري 60 قيراطا..
و كانت مفاجأة
– و هل تعرفون ان هذة المجموعة لا تقدر بثمن لأنها كانت ضمن مجموعة مجوهرات علي باشا التبدليني..
– صاحب ماسة صانع الملاعق.. تلك الماسة المهولة بقصر توبكابي..
– انه هو.. لو يذكر احدكم اي شئ عنه سيعلم ان علي باشا هذا كان قد تمرد علي السلطنة، لذلك قام السلطان محمود بالقضاء عليه و تمت مصادرة كل ممتلكاته و منها مجموعات مجوهراته.. ماسة صانع الملاعق ذهبت الي الخزينة الأمبراطورية..
– و ..
– و مجموعة الماسات الأربع اهداها الي ابنته نهال.. و لذلك تعرف المجموعة بأسم مجموعة الأميرة نهال..
قام اخي مذهولا و قد ذهبت الدماء من وجهه
– و بالطبع هذه المجموعة تساوي الكثير..
– لا تقدر بثمن..
– و اين هي؟
– لما كانت امك هي الأبنة الوحيدة للأميرة نهال فمن طبيعة الأمور ان تؤول لوالدتك..
– و اين هي اذن؟
هز كتفيه في ضيق
– كانت في قصرنا بأسطنبول، ضمن مجوهرات والدتك، حتي قامت الحرب العظمي..
اعتري وجه اخي تعبير عصبي قوي
– و ماذا حدث بعد ذلك؟
– أختفت..
– أختفت !!!!
– نعم.. اختفت كما اختفت عائلة نازريان..
– نازريان.. الأرمن الذين كانوا يخدمون في القصر..
هز ابي رأسه مؤمنا.. بدا العجب علي أخي
– لكني كنت كبيرا في الوقت الذي تركنا فيه آل نازريان.. كنت في الثامنة عشر من عمري.. لا اذكر ذكركم لموضوع السرقة هذا..
– مجموعة الأميرة نهال كانت سرا نخفيه عن الكثير من العائلة العثمانية خوفا من مطالبة بعض ورثة السلطان بنصيب في المجوهرات.. مابالك لو علم اوغاد تركيا الفتاة.. لو ابلغنا بسرقة هذه المجموعة، كانوا سيقبضوا علي آل نازاريان و يستردون المجموعة الماسية، لكن المجموعة كانت ستذهب الي خزينة الدولة دون شك.. لذلك ابقينا موضوع السرقة سرا بيننا انا و امك..
– ماذا؟ و تركتم هؤلاء الأرمن الأوغاد يفرون بممتلكاتكم..؟
– بالطبع لا.. كلفت معارفي في الشرطة و ذوو النفوذ لتتبع آل نازريان حتي اصل اليهم بنفسي و استرد الماسات.. لكن الأمر كان في غاية الصعوبة.. لقد آتي شهر يونيو بسرعة..
– و ماذا حدث في يونيو؟
– في 29 مايو 1915 أمر طلعت باشا رئيس الوزراء ببدء التهجير الأجباري للأرمن من الأناضول.. و فجأة اصبح الأرمن في كل بقعة علي الطريق.. و لم يعد البحث عن اسرة ارمينية هاربة شيئا ممكنا وسط هذا الحشد الرهيب من الألاف من الأرمن النازحين..
نظرت اختي اليه في حسرة
– و هكذا انتهت قصة مجموعة الأميرة نهال..
– حتي هذا الصباح..
اخيرا نطقت انا..
– و ماذا حدث هذا الصباح؟
– كنت اتحدث مع جاك ابن مسيو رينالد.. صاحب مكتبة الكتب القريبة.. كان جاك هذا مجندا حتي وقت قريب ضمن القوات الفرنسية بالشام.. كنت اتحدث معه عندما امسك فكه فجأة.. و ذكر ان احدي ضروسه تؤلمه.. و تمني لو وجد طبيبا يداوي ضرسه يكون في مهارة الدكتور الأرميني الذي عالجه في حلب. ثم تذكر موقفا كوميديا حدث له مع احد العاملين بالعيادة، ارميني يدعي نازريان..
و اتسعت أعيننا في ترقب..
– طلبت منه وصف ذلك النازريان.. و عندما وصفه لي، لم يكن لدي شك في انه فانو نازريان.. الأبن الأكبر لتلك العائلة السارقة..
كانت الحماسة قد تملكت أخي و أختي، لكن حماسة العثمانين هذه كانت اقل كثافة في دمائي، لذلك كانت تغمرني الشكوك بسرعة..

فصل من رواية “ويصا عبد النور” لحسين عبدالعليم..تصدر قريبا من دار ميريت

كتب المواطن ويصا عبد النور فى إحدى الكراسات:

اليوم 17/3/1972 أخذتُ قرارىّ النهائى.
كان يأمل أن يتزوج واحدة تشبه إلى حدّ ما إستير وليامز – بيضاء ورشيقة وجميلة ومن الفيوم وتعوم بمهارة.
أخذ يُؤجل ويسوّف ويراوغ أهله فى سنهور، وعندما كان يعود إلى الفيوم يهرع كل مساءَ إلى سينما رمسيس أو سينما الفيوم ويعيش الساعات مع إستير وليامز أو من يشبهنها من ممثلات فى الأفلام الأجنبية.
اليوم – أخذ قراره النهائى.
بعد أن قضى فترة العصارى يتقلّب فى فراشه مُتخيلاً أنها إستير وليامز بالمايوه تنام فى أحضانه، وبعد أن انتهى به الأمر إلى حلب نفسه متأوهاً – قام، دخل إلى دورة المياه وأهال عليه ماء الدُش، وإذا به يتوقف فجأة.
حاول المواطن ويصا عبد النور أن يرى عضوه أو حتى أصابع قدميه وهو واقف مستقيم فلم يستطع، أدرك المواطن ويصا عبد النور أن كرشه الضخم المُشعر يحول دونه ورؤية هذه الأشياء.
داخله يقين نهائى بأنه لن يكون أبداً جين كيلى – فصرف النظر نهائياً عن موضوع إستير وليامز قائلاً لنفسه أن كل فولة ولها كيّال.
عاد المواطن ويصا عبد النور إلى سنهور – أمضى هناك أسبوعاً ورجع، رجعت معه فايزه حنا – إبنة خالة حنا بنيامين صاحب مصنع العرقى فى البلد – وقد أصبحت زوجته: بيضاء، سمينة، وليست لها رقبة، وتخنفّ فى كلامها.
ظل المواطن ويصا عبد النور مبتئساً لبعض الوقت ثم أخذ قراراً جديداً (لم ينس أن يدوّنه بتاريخه أسفل القرار السابق) سوف يحب فايزة حنا كما هى متجاوزاً عن تُخنها وقصرها ووركيها المليئين بالكلاكيع اللحميّة والعروق الزرقاء وخنفها فى الكلام ورأسها المزروعة بين كتفيها.
بمرور الأيام والشهور والسنين نجح المواطن ويصا عبد النور فيما انتواه، بل وتأكد أن فايزة حنا بنت جدعه ولها عيون طيّبة مثل عيون الأرانب.
الذى جدّ عليه فقط ازدياد عشقه للسينما وإلحاح أفكاره الحواذية الخاصة بالتدوين، كان يؤمن بشكل أو بآخر أن الأشياء المدوّنة ممنوعة من الانفلات فى سياق النسيان ومرور الزمن حتى لو كان قد نقلها من الصحف و المجلات .
فى أواخر عام 1997 جلس متىّ إبن المواطن ويصا عبد النور يُقلِّب فى كراسات أبيه الخاصة بالسينما، قرأ:
* راعى بقر منتصف الليل – أمريكى – أوسكار عام 1970 – بطولة داستين هوفمان قال البطل عن نفسه صراحة: أنا زير نساء ومُبتذل، كان قوى الجسم جميل الوجه طيّبا لا يعرف المراوغة فى تحديد مهامه، جاء من تكساس ليبيع قوته الجنسية لسيدات نيويورك العجائز، فشلت صراحته وابتسامته وملابسه الغريبة فى أن تجذب إليه أحداً، وبدأ يتنازل عن حلمه تدريجياً، وانتهى به الأمر إلى أن يبيع قدراته الجنسية للشواذ من الرجال، كان عليه أن يعرف أن ثمة كثيرين قبله قد غزوا نيويورك بوسائل أكثرخُبثاً ودهاء.
* سائق التاكسى – إخراج مارتن سكورسيزى – جائزة كان 1976 – بطولة روبرت دونيرو – يتجول بالتاكس وسط جو القمامة الأمريكى العام – شوارع مزدحمة بالأضواء والشحاذين والعاهرات والمجرمون وعالم الدعارة السفلى، صوت موسيقى الجاز يُغلِّف كل ذلك – إن بشاعة الحياة الآلية وفقدان العامل الإنسانى يترتب عليهما العديد من الحالات النفسية والتصرفات الإجرامية، جودى فوستر تدلل على بشاعة المجتمع الأمريكى الذى يمسخ صبيّة فى عُمر الزهور ليحوّلها إلى داعرة.
* الوّحشْ – أخرجه صلاح أبو سيف عام 1954 – يعالج قصة محمود المليجى البلطجى الذى كان يخشاه الفلاحون ويساعده الباشا – ضد ضابط المباحث رؤوف – أنور وجدى.
* بونى وكلايد – أمريكا من إنتاج عام 1967 – يقدم ملامح من الحياة الأمريكية أوائل الثلاثينيات (أزمة الكساد) حيث يخرج شاب يُشهر مسدسه ضد مراكز تجميع الأموال فى خزائن البنوك أو خزائن كبار الإقطاعيين، تنضم بونى (فاى دوناواى) إلى كلايد (وارون بيتى) ويكوّنان عصابة بونى وكلايد، يتعاطف معهما الأهالى ويبادرون للترحيب بهما والانضمام إليهما باعتبارهما أبطال يُحققون العدالة، إذ أن هذا الأسلوب فيه نوعاً من إرضاء الذات والخروج من المأزق الاجتماعى والاقتصادى، ينتهى الفيلم بأن يتثقّب أفراد العصابة برصاص البوليس فى لقطات بطيئة.
* جوليا – فانيسيا ردجريف هنا هى نموذج المرأة ككائن إنسانى، تمردت على عائلتها شديدة الثراء واختارت طريق النضال النبيل انضماماً إلى صفوف المقاومة ضد النازى، جوليا هى الضمير الحى ونداء لا يكفّ عن إعادة التوازن للكاتبة ليليان (جين فوندا) أوسكار أحسن ممثلة مساعدة 1977.
هزّ متىّ ويصا عبد النور رأسه حاسداً المواطن ويصا عبد النور على زمنه قائلاً فى حسرة: نفسى أشوف الأفلام دى.. بسّ فين بقى؟!
حَبِلت فايزة حنا وأنجبت ماجدة، غريب أمر هذه البنت، كُلّما شّبت عن الطوق اقتربت فى الشبه والرشاقة والحركات من إستير وليامز.
كبرت ماجدة وأصبحت شابه، ذات يوم كانت عائدة من الخارج فى لهوجة ولم تُعر أبيها ولا أمها الجالسين التفاتاً، جرت إلى دورة المياه، بالكاد رفعت الجيبة وأنزلت الكيلوت وجلست القرفصاء، وتدفّقت بطنها بأصوات مفزعة وقرقعة.
سمع المواطن ويصا عبد النور ذلك، أخذ قراراً لم ينس أن يدوّنه: ماجدة ليست هى إستير وليامز.
بمرور الزمن أدرك المواطن ويصا عبد النور أن ماجدة بنت جدعة مثل أمها ولها عيون طيّبة وتشتغل تبع الكنيسة فى مشغل بنات يسوع وتعمل جمعيات لمساعدة نفسها فى الزواج.
فكّر المواطن ويصا عبد النور: أنا من الأصل أهوى التبرز فى الكابينيه البلدى وأتضايق من استعمال كابينيه أفرنجى، يشعر نحوه بأن مايتم فيه ليس شُخاخاً بالمعنى المألوف، مجرد حجرة صغيرة بالقيشانى وجلسة مريحة تستدعى من الشخص جهداً أكبر لإتمام فعل الإخراج.
فيما بعد قرأ المواطن ويصا عبد النور مقالاً لا يدرى أين – يقول: إن الكابينيه البلدى أكثر حميمية وأن جلسة التبرز فى الكابينيه البلدى تجعلنا كما خلقنا الله وتساعد عضلات البطن والفخذين على الضغط لإفراغ المستقيم.
تابع المواطن ويصا عبد النور تذكُّره: حتى فى استعماله المضطر للكابينيه الأفرنجى كان يجلس عليه من فوق ويستعمله كأنه يستعمل كابينيه بلدى – بالتالى كان لابد له من خلع الحذاء حتى يحافظ على التوازن فوق قاعدته الأمر الذى أصبح فيه حرّيفاً فيما بعد.
ودائماً عندما يكون مضطراً لاستعماله وماسك نفسه بالعافية، ويبدأ فى التحرر وخلع الحذاء – دائماً ينعقد رباط الجزمة الملعون (هل هذا وقته) ويأخذ عدة دقائق إضافية لفكّ العقدة أو قطع الرباط لدرجة أنه فى مرات متعددة تبرز على نفسه.
– صَدق. صَدق عم شاكر خدّام دورة الميّه فى الجامع: الواحد من دول يبقى عنده استعداد يدّينى فدّان أرض عشان أخليه يدخل يفضّى حَسِرة بطن.
حَبِلت فايزة حنا وأنجبت متىّ، غريب أمر ذلك الولد، كُلّما شبّ عن الطوق اقترب فى الشكل والرشاقة والحركات من جين كيلى فى فيلم الرقص تحت المطر، وتعلمّ من أبيه نداء جونى ويسملر (طرزان) وحُب الحيوانات والطيور.
أكثر ما كان يؤلم متىّ ويجعله يرتعش كالمحموم – عندما كانت أمّه تذبح الطيور، كان يثأثئ ويفأفئ: بلاش.. بلاش.. بلاش.
وعندما يهدأ الولد وتقول له فايزة حنّا: كده يبقى الطير محرّم عليك – كان يناقش بموضوعيه: افترضوا بقى أن ربّنا خلق بنى آدمين غيرنا الواحد فيهم قدّ العمارة.. وهم بيتغذوا علينا.. فايمسكوا الواحد أو الوحدة منّا يدبحوه ويُسلقوه ويحمروه وياكلوه.. يبقى إيه الوضع؟!
وكيف كان متىّ يعلم أنه فى زمن مُقبل سوف يُذبح الناس فعليا وتقطع رؤوسهم وتُمسك الرأس من شعر الذبيح فى مواجهة الكاميرا؟!
يؤكد الولد: أنا افتكر إنّه ممنوع علينا أو على أى حدّ يموِّت حاجة خلقها ربّنا على الإطلاق.
تناقشه ماجدة: ولا الصراصير ولا الفيران ولا الابراص؟
– أيوه
– طيب يا فالح يا حنيّن.

الفصل الأول من رواية “الوباء” لشريف حتاتة..خلال هذا الشهر..من دار ميريت

الفصل الأول

رفع الحقيبة عن الأرض وتقدم بخطوة متمهلة فوق الرصيف. كانت القاطرة قابعة مثل الحشرة الضخمة قرب الحاجز الذي دخل منه. أسرع الخطوة واتجه إلى إحدى عربات الدرجة الثانية. صعد إليها وسار في الممر إلى أن عثر على مقعد خال إلى جوار نافذة يُمكن أن يُطل منها على شروق الشمس . وضع الحقيبة على الرف أعلى المقعد، وأخرج من جيبه منديلاً نفض به التراب المتراكم عليه ثم جلس . تطلع من النافذة على أفواج المسافرين وهم يقفون كالأشباح في غيوم الفجر تسرب إليها ضوء الفلورسنت. حملق في السقف العالي ارتفع زجاجه على ضلوع من حديد سوداء اللون، فبدت المحطة كالقفص الضخم إنطلق فيه الناس الباحثين عن ثغرة يخرجون منها. فوق القضبان المجاورة استقرت عربة نوافذها مغلقة كأنها ظلت تغط في النوم منذ دهر، وعلى مقربة منها وقف رجل أشعث الشعر كأنه هبط منها. تطلع إليه بعينين فيهما لمعة غريبة فالتفت بعيداً عنه.
تحرك القطار وسار ببطء. إخترق ضواحي المدينة وتركها وراءه، فظهرت الحقول أضاءتها الشمس. رأى نفسه طفلاً يرقد على التراب ويُحملق في أوراق الشجر تهتز أعلاه ببطء. أحس أنه رُفع عن الأرض، أن جسمه بدأ يتأرجح، بسطح خشن يحتك بيديه فبكي لعلهم يُعيدونه إلى الدفء الذي جاء منه. ظل يبحث عنه دون جدوى، دون أن يعي أحياناً ما الذي يبحث عنه. يُهيأ إليه في بعض اللحظات أن صدراً ضمه إليه. شعور خاطف أسرع من خفقة القلب. إحساس بالنعومة، بالدفء المبهم ضاع منه فظل يحتضن الحنين والغضب لم يتخلص منهما حتى عندما أصبح شاباً فارع القوام تسلل إلى بيت الجارة. وضعت كفها على كفه، وفمها على فمه، ثم رفعته فوقها فعرف لأول مرة لحظة النسيان في جسم المرأة قبل أن يعود إلى الجرح الذي لم يُعالج منه.
* * *
جاءه الخطاب المسجل يوم خميس. هكذا يتذكر ففي اليوم التالي سمع شيخ الجامع وهو يصرخ بأعلى صوته داعياً الناس إلى طاعة رجال الحكم. قرأ الخطاب، وقرار النقل المرفق به. منذ الآن هو المرشد الزراعي في قرية “كفر يوسف” وعليه أن يُسافر فوراً لاستلام العمل.
كان في السابعة والعشرين من عمره، بلا زوجة، ولا أسرة، ولا صديق، ولا حتى بطاقة تموين، هارباً في الأبحاث التي يُجريها، وفي قدرة على العمل منذ اللحظة التي يظهر فيها قرص الشمس إلى اللحظة التي تتوقف فيها الخطوات السائرة على الرصيف أعلى “البدرون” الذي يسكن فيه.
كان يُمكن أن يبقى في القاهرة لكنه أصر على النقل إلى “كفر يوسف” فشكوا في أمره. فلماذا يُفكر الشخص في الإنتقال من العاصمة إلى الريف؟ لابد أن وراءه شيء. أطلقوا وراءه أجهزة الرصد. إستدعاه عقيد أذناه فى حجم ورق الكرنب تلتقطان الأصوات عن بعد، وشعره محلوق وفقاً لموضة العصر. سأله عن أبحاثه في سلالات الأرز، عن أمه وأبيه. لم تُعجبه إجاباته فثبتوا في جسمه أسلاكاً تجعله ينتفض عندما لا يرضون عما يقوله.
مر شهر دون أن يصله الرد على طلب النقل الذي تقدم به، فتوجه إلى مكتب وكيل الوزارة المختص ليسأله عنه. لم يكن في مكتبه. قال الفراش الجالس على بابه إن الباشا سافر في جولة تفتيشية إلى “الأقصر” و”أسوان”، وٍسأله عما يُريد. أوضح له السبب الذي جاء من أجله، فأغلق عين وألقى إليه بنظرة فاحصة من عينه الآخرى، ثم قام وأشار إليه بأن يتبعه. سار وراءه حتى نهاية طرقة طويلة تنتهي عند نافذة تُطل على حوش خلفي تُلقى فيه فضلات الوزارة. توقف ونظر حوله عدة مرات قبل أن يُخاطبه قائلاً:
“هو انت من “كفر يوسف” صحيح ؟
“نعم”
قال:
“دي البلد اللي أنا منها، وإنت باين عليك راجل طيب علشان كده هأخدمك. إطمن موضوعك خلص. أنا شوفت جواب على مكتب الباشا وأنا بأنضفه جاي من بتوع الرصد دول. كان مختوم عليه سري جداً فقريته. لقيته بيقول إن الجهاز ماعندوش مانع من نقل الموظف “صفوت محمد بسيوني” “لكفر يوسف”.
سلم عليه بحرارة وشكره ثم إنطلق هابطاً على السلالم بسرعة. عاد إلى البيت وأخذ يُعد حاجاته استعداداً للسفر. كان يُريد أن يبتعد عن “القاهرة” في أقرب فرصة فلم يعد يطيق البقاء فيها، في الجو الملوث، والضجيج، وتوترات الحياة السائدة فيها. تملكه شعور غامض بأنه مُقدم على مرحلة خطيرة في حياته عاد إليه بقوة وهو جالس في القطار. في الوقت نفسه بدا له كأن “صفوت محمد بسيوني” المتجه الآن إلى “كفر يوسف” ليس شخصاً واحداً وإنما شخصان، أحدهما هو الجالس على المقعد في القطار، والآخر شاب يرتدي عفريته زرقاء ويتسلل إلى مبنى ضخم يُطل على القرية من أعلى، مبنى يُثير فيه الرهبة عندما ينظر إليه. ثم إنتقل عقله إلى صور آخرى. رأى نفسه طفلاً يلعب في حواري البلدة، وصبياً يجمع الدودة من حقل للقطن، وشاباً ينتقل بين القبور في مدفن حطت فيه طيور سوداء اللون، ثم طارت وأجنحتها ترفرف.
هبط من القطار في مدينة “بلبيس” واستقل سيارة “بيجو” في الموقف القريب من المحطة لتحمله إلى “كفر يوسف”. قرب الساعة الخامسة مساءً توقفت السيارة عند تقاطع للطرق فيه بعض المحلات. قال السائق: “كفر يوسف”. خرج من السيارة وأنزل حقيبته من أعلى الشبكة، فوجد نفسه واقفاً في شارع يقود إلى ترعة يجتازها كبري صغير إنطلق عليه السائق بسيارته بعد أن هبط هو منها. لمح محل للبقالة على الناصية، وعلى الناحية الآخرى مقهى انتصبت خارجه دكة ومقاعد من القش جلس عليها عدد من الفلاحين انهمكوا في الحديث وفي سحب أنفاس من الجوزة. استدار وتوجه إلى محل البقالة وقف فيه رجل عريض الجسم، ملتح الوجه أخذ يتفرس فيه عبر المسافة التي تفصل بينهما. خطا نحو المحل حاملاً حقيبته فاستدار الرجل وانشغل بتصفيف زجاجات من الزيت على رف. لاحظ أن ذراعيه طويلتان وقويتان على نحو غير عاد. حياه ثم سأله عن مكان الجمعية التعاونية الزراعية، فرد التحية وأشار إلى طريق ممتد إلى جوار الترعة قائلاً :
“هتلاجيها بعد المباني اللي إنت شايفها دي”، وعاد يرص الزجاجات على الرف.
وصل إلى مبنى الجمعية بعد أن مر على مقهى، وعلى ورشة للحدادين. أمام المبنى كانت تُوجد حديقة للبرتقال جلس على بابها رجل عجوز تخطاه وسار إلى باب الجمعية دون أن يسأله. وجد الباب مغلقاً بقفل وجنزير فعاد إليه وقال:
“أنا المرشد الزراعي الجديد، وصلت دلوقتي وعايز أدخل السكن بتاعي.”
حملق الرجل فيه، وفي الحقيبة التي كان يحملها، ثم قال:
“حمدالله على السلامة يابيه، أنا غفير الجمعية، محسوبك “عبده جاب الله”. حضرتك اسمك إيه؟”
“اسمي “صفوت محمد بسيوني”. هو مفيش حد في الجمعية؟”
“لا يا بيه. كلهم روحوا.”
“مفيش حد ساكن فيها؟”
“لا يابيه المدير ساكن في بيته بره. لكن أنا معايا المفاتيح سابوها لي لما جت الإشارة اللي بتجول إن حضرتك حتحضر النهاردة. أهلاً وسهلاً يابيه. نورت “كفر يوسف”.”
كانت ساقاه ملطختين بالطين كأنه انتهى على التو من ري الحديقة. أحس بيده المعروقة الخشنة تضغط على يده، وبعينيه تستقران على وجهه بنظرة مستطلعة باردة. استطرد:
“البيه المدير كان بوده يستناك لكن كان عنده شغل. هو ما بيسبش المفاتيح مع حد غيري. أصل في البيت عنده مفيش غير أمه، وهى عجوزة لمؤاخذة، يادوب بتشوف.” قاطعه قائلاً:
“أنا صاحي من بدري، والمشوار تعبني. خدني للسكن.”
“أعملك شاي الأول يابيه؟”
“لا شكراً يا عم “عبده”. هى المفاتيح معاك؟”
“لا يا بيه، دي في الدار. هأروح أجيبها. إتفضل معايا تشرب شاي ولاَ تاكل لجمة.”
“لا شكراً، هأستناك هنا. بس ما تغبش عليّ.”
“لا هأرجع لك حالاً مسافة السكة بس.”
* * *

ديسمبر 29, 2008

اصدارات دار ميريت للنشر لمعرض القاهرة الدولي للكتاب 2008 ..

قائمة بإصدارات دار ميريت 2008

1-الكتب :

-مقالات غاضبة

د.جابر عصفور

**********************************

-التوراة الهيروغليفية

د\فؤاد حسنين علي

**********************************

-الخوف و المتاهة

نبيل عبد الفتاح

**********************************

-قصة جوجل

ديفيد فايتس
ترجمة\ سمير محفوظ بشير

**********************************

-قصة خروج بني إسرائيل

ترجمة و تحرير : إيرنست فريريخس و ليونارد ليسكو
ترجمة\ بيومي قنديل

**********************************

-عن الكتابة

ستيفن كينج
ترجمة \ سمير محفوظ

**********************************

-قصة الجنس عبر التاريخ

ري تاناهيل
ترجمة \ إيهاب عبد الحميد

**********************************

-خرافة المستبد العادل

يسري حسين

**********************************

صراع الأيدلوجيات

محمد عبد الشفيع عيسى

**********************************

-أيديولوجية الفن الحديث

د.هويدا السباعي

**********************************

-نقد العقل المصري المعاصر

(more…)

خبر جديد .. رواية دكتور أحمد خالد توفيق الجديدة في معرض الكتاب ..

السلام عليكم ..
بلغنا من مصدر جميل أن الدكتور الكبير أحمد خالد توفيق يستعد لطرح روايته الجديدة ” يوتوبيا ” في معرض الكتاب القادم ..
ستصدر الرواية عن دار ميريت المحترمة ..
هنيئا لهذا التعاون المثمر ..
ربما تكون هي الرواية نفسها التي تم نشرها على صفحات جريدة الدستور ..
نتمنى التوفيق للدكتور على عمله الجديد ..
تحياتي ..
الساحر ..

المدونة على ووردبريس.كوم.